إن الحج من أوله إلى آخره ، وفي كل خطوة من خطواته ، حافل بكثير من المناسك والمواقف التي تشعر الإنسان بعظمة الله وقدرته ، وتتجلى فيها الحكم والأسرار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وفي كل واحدة من هذه المناسك تذكرة للمتذكر ، وعبرة للمعتبر ، وهذه بعض أسرار الحج وحكمه :
الحج والإحرام
في الإحرام تظهر المساواة بين جميع المسلمين حاكمهم ومحكومهم ، غنيهم وفقيرهم ، ومظهر الحجاج في لباس الإحرام يمثل البعث في الحياة الآخرة ، ويكشف عن أن الدنيا الزائلة لا يليق أن تصرف مفاتنها العاقل المؤمن عن الاستعداد للحياة الباقية .
وهو في حقيقته تجرد من شهوات النفس والهوى وحبسها عن كل ما سوى الله وعلى التفكير في جلاله .
الحج والتلبية
في التلبية إجابة نداء الله - عز وجل - فارجُ أن تكون مقبولاً ، واخش أن يقال لك : لا لبيك ولا سعديك ، فكن بين الرجاء والخوف متردداً ، وعن حولك وقوتك متبرئاً ، وعلى فضل الله - عز وجل - وكرمه متكلاً ، وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية إجابته لنداء الله عز وجل : { وأذن في الناس بالحج } وانقياد الخلق بنفخ الصور ، ونشرهم من القبور ، وازدحامهم لعرصات القيامة مجيبين لنداء الله ، وهذه التلبية شهادة على تجرد النفس من الشهوات والتزامها الطاعة والامتثال .
الحج والطواف
ينبغي أن يُحضر في قلبه التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ، والحاج في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش ، الطائفين له ، وليس المقصود هو طواف الجسم بالبيت فحسب ، بل المقصود هو طواف القلب بذكر رب البيت ، حتى لا يبتدئ الذكر إلا منه ، ولا يختم إلا به ، كما يبتدئ بالبيت ويختم به .
والطائفون في عملهم ، كأنما يمثلون الدوران حول عقيدة التوحيد ، والتمسك بها ، وإخلاص العبودية لله ، والاستجابة لندائه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام .
كما يرمز إلى مشروعية الاقتداء بأبينا إبراهيم ورسولنا محمد - عليهما الصلاة والسلام - ، وسائر أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين الذين لبوا دعوة الله في قوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } .
الحج والسعي
إنه يضاهي تردد العبد بفناء الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة .
وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات يوم القيامة ، وليتذكر تردده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان متردداً ، وفي السعي شدة إلحاح المؤمن في استمطار رحمة الله عليه .
وفيه شعور بالضراعة بين يدي الله القوي العزيز ، وفيه اقتداء بما فعلته السيدة هاجر ، إذ كانت حركتها تلك حركةمباركة ، وسنة قائمة إلى يوم القيامة يتعبد بها الناس ربهم ويأخذون منها وجوب السعي وراء الرزق والحث على العمل والبعد عن الكسل .
الحج والوقوف بعرفة
يذكر الحاج به يوم القيامة واجتماع الأمم والعرض الأكبر على الله - تعالى - وهو موقف يذكر بالموت الذي ينتقل به المرء إلى ربه بكفن شبيه بلباس الإحرام ، كما أن فيه تجرد الإنسان في ذلك الوقت من ملاذ الدنيا ، وشهوات النفس ، وأن ذلك يدفع إلى الإقبال على الله - تعالى - ، والاجتهاد في الأعمال الصالحة .
كما يركّز ذلك التجمع إلى التذكير بالبعث بعد الموت وما في يوم القيامة من أهوال ، ليأخذ المسلم الاستعداد لها بأفعال الخير ، وفيه من تذكير المسلمين الذين دفعوا إلى الخير ، وفيه تذكير للمسلمين الذين دفعوا إلى الحج ، بمشروعية الاتحاد والأخذ بالأسباب الداعية للوحدة والاجتماع .
وما هو إلا بذل المهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية ، وأيدٍ مرفوعة بالرجاء ، وألسنة مشغولة بالدعاء ، وآمال صادقة في أرحم الراحمين .
الحج ورمي الجمار
إنه رمز للاقتداء بسيدنا إبراهيم - عليه السـلام - ومحاربة الشيطان ووسوسته وتضليله .
كما يرمز إلى وجوب طاعة الله ، وامتثال أوامره ليصبح المرء في عداد المحسنين ، وهو عزم على الالتجاء إلى الله - تعالى - ، ونبذ الأهواء ، وهو رمز مقت واحتقار لعوامل البشر ونزعات عائد لصدق العزيمة في طرد الهوى المفسد للأفراد .
الحج وذبح الهدي
إنه إراقة لدماء الرذيلة بيد اشتد ساعدها في بناء الفضيلة ، إنه ذبح للنفس الأمارة بالسوء ، وإخراجها من جسد الإنسان وإحلال روح الخير والفضيلة عليها .
وهو إظهار لنعمة الله ، بتوسعته على المسلمين بأن يوسعوا على أنفسهم وعلى الفقراء والمساكين في أيام العيد وفيه تذكير بفعل إبراهيم - عليه السلام - حينما عزم على قتل ابنه إسماعيل استجابة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم ، وأصبح الفداء بعدها سنة متبعة تفعل كل عام اقتداء بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ساق الهدي من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة