ولم يكن من هديه الراتب الصلاة عليه في المسجد وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد وربما كان يصلي أحيانا على الميت في المسجد كما صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد ولكن لم يكن ذلك سنته وعادته وقد روى أبو داود في " سننه " من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له وقد اختلف في لفظ الحديث فقال الخطيب في روايته لكتاب السنن في الأصل " فلا شيء عليه " وغيره يرويه فلا شيء له وقد رواه ابن ماجه في " سننه " ولفظه فليس له شيء ولكن قد ضعف الإمام أحمد وغيره هذا الحديث قال الإمام أحمد : هو مما تفرد به صالح مولى التوأمة وقال البيهقي : هذا حديث يعد في أفراد صالح وحديث عائشة أصح منه وصالح مختلف في عدالته كان مالك يجرحه ثم ذكر عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه صلى عليهما في المسجد .
قلت : وصالح ثقة في نفسه كما قال عباس الدوري عن ابن معين : هو ثقة في نفسه . وقال ابن أبي مريم ويحيى : ثقة حجة فقلت له إن مالكا تركه فقال إن مالكا أدركه بعد أن خرف والثوري إنما أدركه بعد أن خرف فسمع منه لكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف . وقال علي بن المديني : هو ثقة إلا أنه خرف وكبر فسمع منه الثوري بعد الخرف وسماع ابن أبي ذئب منه قبل ذلك . وقال ابن حبان : تغير في سنة خمس وعشرين ومائة وجعل يأتي بما يشبه الموضوعات عن الثقات فاختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك انتهى كلامه .
وهذا الحديث حسن فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وسماعه منه قديم قبل اختلاطه فلا يكون اختلاطه موجبا لرد ما حدث به قبل الاختلاط . وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة هذا وحديث عائشة مسلكا آخر فقال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت . ورد ذلك على الطحاوي جماعة منهم البيهقي وغيره . قال البيهقي : ولو كان عند أبي هريرة نسخ ما روته عائشة لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلي على عمر بن الخطاب في المسجد ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره .
قال الخطابي : وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلى عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه قال ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت متأولا على نقصان الأجر وذلك أن من صلى عليها في المسجد فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وأن من سعى إلى الجنازة فصلى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه وأحرز أجر القيراطين وقد يؤجر أيضا على كثرة خطاه وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد .
وتأولت طائفة معنى قوله فلا شيء له أي فلا شيء عليه ليتحد معنى اللفظين ولا يتناقضان كما قال تعالى : وإن أسأتم فلها [ الإسراء 7 ] أي فعليها فهذه طرق الناس في هذين الحديثين .
والصواب ما ذكرناه أولا وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر وكلا الأمرين جائز والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد . والله أعلم