فأما لفظة الرواح فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال وهذا إنما يكون في الأكثر إذا قرنت بالغدو كقوله تعالى : {{غدوها شهر ورواحها شهر}} [ سبأ 12 ] وقوله صلى الله عليه وسلم من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح
وقول الشاعر .
نروح ونغدو لحاجاتنا
وحاجة من عاش لا تنقضي
وقد يطلق الرواح بمعنى الذهاب والمضي وهذا إنما يجيء إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو .
وقال الأزهري في " التهذيب " : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت يقال راح القوم إذا ساروا وغدوا كذلك ويقول أحدهم لصاحبه تروح ويخاطب أصحابه فيقول روحوا أي سيروا ويقول الآخر ألا تروحون ؟ ومن ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة وهو بمعنى المضي إلى الجمعة والخفة إليها لا بمعنى الرواح بالعشي .
قد يأتي التهجير بمعنى التبكير وأما لفظ التهجير والمهجر فمن الهجير والهاجرة قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر تقول منه : هجر النهار قال امرؤ القيس
فدعها وسل الهم عنها بجسرة
ذمول إذا صام النهار وهجرا
ويقال أتينا أهلنا مهجرين أي في وقت الهاجرة والتهجير والتهجر السير في الهاجرة فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة .
قال الآخرون الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح فإنه يطلق ويراد به التبكير .
قال الأزهري في " التهذيب " : روى مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه
وفي حديث آخر مرفوع المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة قال ويذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال وهو غلط والصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شميل أنه قال التهجير إلى الجمعة وغيرها : التبكير والمبادرة إلى كل شيء قال سمعت الخليل يقول ذلك قاله في تفسير هذا الحديث .
قال الأزهري : وهذا صحيح وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس قال لبيد :
راح القطين بهجر بعد ما ابتكروا
فما تواصله سلمى وما تذر
فقرن الهجر بالابتكار والرواح عندهم الذهاب والمضي يقال راح القوم إذا خفوا ومروا أي وقت كان .
وقوله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه أراد به التبكير إلى جميع الصلوات وهو المضي إليها في أول أوقاتها قال الأزهري وسائر العرب يقولون : هجر الرجل إذا خرج وقت الهاجرة وروى عن أبي زيد : هجر الرجل إذا خرج بالهاجرة . قال وهي نصف النهار .
ثم قال الأزهري : أنشدني المنذري فيما روى لثعلب عن ابن الأعرابي في " نوادره " قال قال جعثنة بن جواس الربعي في ناقته :
هل تذكرين قسمي ونذري
أزمان أنت بعروض الجفر
إذ أنت مضرار جواد الحضر
علي إن لم تنهضي بوقري
بأربعين قدرت بقدر
بالخالدي لا بصاع حجر
وتصحبي أيانقا في سفر
يهجرون بهجير الفجر
ثمت تمشي ليلهم فتسري
يطوون أعراض الفجاج الغبر
طي أخي التجر برود التجر
قال الأزهري يهجرون بهجير الفجر أي يبكرون بوقت السحر .
وأما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أول النهار فهذا غاية عملهم في زمان مالك رحمه الله وهذا ليس بحجة ولا عند من يقول إجماع أهل المدينة حجة فإن هذا ليس فيه إلا ترك الرواح إلى الجمعة من أول النهار وهذا جائز بالضرورة .
وقد يكون اشتغال الرجل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار ولا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة وجلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى أفضل من ذهابه وعوده في وقت آخر للثانية كما قال صلى الله عليه وسلم والذي ينتظر الصلاة ثم يصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم يروح إلى أهله وأخبر " أن الملائكة لم تزل تصلي عليه ما دام في مصلاه " وأخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات وأنه الرباط " وأخبر " أن الله يباهي ملائكته بمن قضى فريضة وجلس ينتظر أخرى " وهذا يدل على أن من صلى الصبح ثم جلس ينتظر الجمعة فهو أفضل ممن يذهب ثم يجيء في وقتها وكون أهل المدينة وغيرهم لا يفعلون ذلك لا يدل على أنه مكروه فهكذا المجيء إليها والتبكير في أول النهار والله أعلم .